كتبهامحمود
مرسي ، في 29 يونيو 2009 الساعة:
13:49 م
الرحلة الأخيرة
…..
كانت لا تستطيع
الحركة إلا النذر اليسير بيديها ولا توجههما بشكل سليم وحسبما ترغب هي .. والله
أعلم .
فكانت لا تستطيع
الكلام إلا كلمة ’’آه‘‘ بمعانيها المختلفة حسب طول الكلمة وارتفاعها
ونبرتها فتعبر بها عن الألم أو الموافقة أو الرضا ، ولم يحرمها الله عز
وجل من استطاعة أن تقول ’’لأ‘‘ لترفض في بعض الإجابات على الأسئلة البسيطة
التي نوجهها إليها .. كحاجتها للماء أو الطعام أو النوم …
ولا تستوعب ذاكرتها
أي شيء كما نتصور نحن .. والله أعلم .. ولكن الواضح أنها فصلت تماماً
بين صورة أولادها وصورة من يقومون بخدمتها .. نحن أولادها .. كنا بالنسبة
لها كغرباء موثوق بهم .. والله أعلم .
إنها
أمي ..
في الخامسة والثمانين من عمرها …
كانت زوجتي .. بارك الله فيها .. تتعاون
معي في حملها من سريرها لكرسيها المتحرك ، ثم أدفعه بها إلى الحمام لتقوم زوجتي
بتحميتها وتغيير ملابسها وتدفع كرسيها خارج الحمام لنذهب بها إلى كرسي
أسيوطي مريح نجلسها عليه ونحيطها بالوسائد كي تستند عليها ولا تقع ، فهي لا
تستطيع صَلْبَ جذعها .
كانت بلا أسنان ،
ورفضت استخدام طقم الأسنان أثناء وعيها وحركتها منذ سنوات .. فكنا نعتمد
في إطعامها على فرم اللحوم ووضعها على الأرز والخضار المطهي المفروم وتكسير
أقراص دوائها عليها .. وغالباً تقوم زوجتي بإطعامها وأحياناً أقوم أنا ،
ونعرض عليها الماء والعصائر والفاكهة المخفوقة والزبادي والمهلبية وما
شابه مما يسهل بلعه باستمرار .
وكان هذا ما يحدث
أيضاً في بيت أخي الذي يصغرني ببضع السنوات والمتزوج من أخت زوجتي ،
فكانت تبقى عنده في منطقة نادي الرماية بالهرم شهراً وعندي في مدينة حلوان
شهراً على التوالي ، حتى أصيبت وهي عندي بالسعال ، فهرولت وأحضرت الطبيب
الذي وصف العلاج وأبلغني أنه من المستحسن عمل إشاعة على صدرها . ولكن سنؤجلها لحين رؤية
استجابتها للعلاج …
ثم فقدت القدرة
على البلع ، فهرولت إلى طبيب آخر فقال لا بد من تعليق المحاليل لها ،
وتحتاج إلى تمريض مستمر ، فقلت له سنوفره لها بالمنزل .
وما كانت إلا ليلة
واحدة وفي الفجر لاحظت أنها تتنفس بصعوبة وشبه غائبة عن الوعي .. فاتصلت بالإسعاف ، واتصلت
بأخي الذي كان بالغردقة يغسل حر الصيف ، واتصلت بأختي وكانت تكبر أخي عاماً
تقريباً وتقطن في مدينة 6 أكتوبر وقالت كن على اتصال بي حتى أصل إليك .
ونقلت إلى سيارة
الإسعاف في السادسة صباحاً صحبها حفيدها .. إبني الأصغر طالب في السنة
النهائية بإذن الله في كلية التجارة .. وأقود أنا سيارتي خلفهم مباشرة
لنطوف بمستشفيات مدينة حلوان ..عاصمة محافظة حلوان التي اقتطعت من محافظة
القاهرة .. ولم أجد لها مكاناً بإحدى هذه المستشفيات بالرعاية المركزة …..
ورأيت الطبيب الذي أتى
يجري بمستشفى الإنتاج الحربي وتوجه إليها داخل سيارة الإسعاف يتفحصها
رغم علمه بعدم وجود مكان لها بمستشفاه .. ويتأثر لحالها ويتفاعل إيجاباً
معي ويرشدني إلى مستشفيات أخرى علي أجد لها مكاناً بها ……
ورأيت رجلي
الإسعاف وتعاطفهما الشديد معي وتأكيدهما أنهما لن يتركاني إلا بعد الاطمئنان عليها
في إحدى المستشفيات ……
كما رأيت مستشفى ..
واأسفاه .. إنها تتبع إحدى الجمعيات الإسلامية الخيرية .. بها طبيبة
شابة مناوبة تكاد ان تكون تخرجت بالأمس لصغر سنها البادي عليها .. قالت سنأخذها ويوجد مكان
لها بالرعاية المركزة لدينا ، ونقلها رجال الإسعاف للسرير الذي أوصت به الطبيبة
وانصرف رجال الإسعاف مشكورين . وبهو الرعاية المركزة بالدور الثالث ولا يوجد
مصعد كهربي والبهو خال كما رأيت من المرضى سوى أمي .
واتصلت تلفونياً بأختى
التي كانت تقطع الطريق هي وزوجها بسيارتهما لأخبرها عن مكاننا ، وأرسلت
إبني بسيارتي ليحضر زوجتي (أمه) ومعها بعض المتطلبات . وجلست في الاستراحة
كما قالوا لي ريثما يتفحصوها . وإذ بالطبيبة تأتي إلي لتقول ..’’إحنا مش ح نقدر ناخد
الحاجَّة لأنها تحتاج لتنفس صناعي وليس لدينا جهاز فائض لها‘‘ .
وأي فرد في مكاني
لابد أن يثور .. ’’كيف يكون التخبط في اتخاذ قرار قبولها من عدمه بالمستشفى
.. وكيف بعد انصراف سيارة الإسعاف ونقل الخبر لأختي وطلب زوجتي للحضور
وسيارتي ليست معي إنها مع إبني !!‘‘ . وبدلاً من أن تقدر حالتي وحالة
المريضة ..تطلب مني أن أحدثها بطريقة أفضل !! علماً بأنني لم يصدر عني أي
لفظ غير لائق لأني رجل تربوي في الأصل .
وأشكر كل من ساهم
في اختراع ونشر التليفونات المحمولة فهي أساسية في مثل هذه المواقف
. المهم أحضرت سيارة الإسعاف مرة أخرى ولحسن الحظ كانت نفس السيارة السابقة
بنفس الأشخاص ، وقالت لي إدارة المستشفى إدفع لنا خمسون جنيهاً كشف
طبيبة الرعاية . وبعد خروجنا من المستشفى هذه أبلغني رجل الإسعاف بأن المستشفى
رفضت هذه الحالة لقولهم أن المريضة لا يبقى لها سوى ساعات وتفارق الدنيا
، ونصحني بإعادتها للمنزل لتقابل ربها بسلام والرأي يعود إليك . فقلت لهم بل سأفعل كل ما
أستطيع حتى وإن صح قولهم فلتقابل ربها وهي هادئة في ظل رعاية تمنع عنها ضيق
التنفس وتهدئ حالتها. فقالوا نحن معك أينما شئت . ولحقت
بي أختي ولم نترك أي مستشفى بحلوان يليق بإيواء ’’أمي‘‘ إلا وبحثنا به عن
مكان لها ، ولما لم نجد توجهنا لمنطقة ’’المعادي‘‘ وباء البحث بالفشل أيضاً
.. ولكن في مستشفى النخيل بالمعادي وأثناء النقاش ورد إسم مستشفى الشيخ
زايد التخصصي وقال موظف الاستقبال أنه لبعدها بجوار 6 أكتوبر على طريق
الاسكندرية الصحراوي ممكن وجود أماكن بها ، واتصل بهم تليفونياً ، وخاطبت
طبيب العناية المركزة بها فقال لي لا بد من فحصها ، فوصفت له الحالة وقلت
إذا كان هناك أماكن سأسرع بها إليك لفحصها ، فقال توجد أماكن إن شاء الله ..
فتوجهنا بسيارة الإسعاف إلى هناك على الفور.
وكانت الخدمة والاهتمام
بها في غاية الروعة ، بمجرد دخولها طلب الطبيب الفحص .. فكانوا يجرون بها
على تروللى الإسعاف لعمل الفحوصات والأشعات بأنواعها والتحاليل والقياسات
، صعوداً وهبوطاً بالمصاعد من معمل لآخر .. حتى استقرت علي سريرها
بحجرة الرعاية المركزة المكتظة بالأجهزة الحديثة المتطورة ، وكان هذا في
الساعة الحادية عشر صباحاً بعد رحلة بدأت من السادسة صباحاً ومعنا رجال
الإسعاف لآخر الوقت . وأخيراً استقرت وقالوا لنا يمكنكم زيارتها الخامسة
عصراً .
وكان أخي قد عاد
من الغردقة والتقينا عندها في الخامسة عصراً لزيارتها .. كانت هادئة ،
تتنفس بسهولة ، وجميع الأجهزة حولها تعمل على تنظيم وظائفها بفضل الله
وكانت لا تزال في غيبوبة ، وقلت الحمد لله .
وفي صباح اليوم
التالي في الساعة السابعة ؛ اتصل بي أخي ليبلغني أنه في اتصال هاتفي بالمستشفى
للاستفسار عن حالتها ، قالوا له .. البقاء لله.
وكانت رغبتها أن تدفن
في مدينة الاسماعيلية في مدافن عائلتها ، وتوجهنا بها في رحلتها الأخيرة
إلى هناك ، وقام عدد غفير من أقاربها وغيرهم من المصلين بالصلاة عليها
بعد صلاة العصر مباشرة في مسجد المطافي بالاسماعيلية ، وذهبت إلى مثواها
الأخير في مدافن عائلتها . رحمها الله ، وجعل قبرها روضة من رياض الجنة ،
وغفر لها ، وأسكنها الجنة ، فقد كانت ……
…..
بقلم محمود مرسي