الأربعون النووية -
الجزء الثاني
كتبهامحمود مرسي ، في 11 مايو 2007 الساعة: 18:33 م
الأربعــون النووية
الجزء الثاني
…..
الحديث الثاني - حديث جبريل
عن عمر (رضي الله عنه) أيضاً قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد
الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي (صلى الله
عليه وسلم) ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمّد
أخبرني عن الإسلام؟! فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): الإسلام أن
تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة،
وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال: صدقت.
فعجبنا له يسأله ويصدّقه، قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن
بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال:
صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه
فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فأخبرني عن
الساعة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، قال:
فأخبرني عن أماراتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها،
وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، ثم انطلق.
فلبثت ملياً، ثم قال: يا عمر أ تدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه
جبريل أتاكم يعلّمكم دينكم. (رواه مسلم)
شرح وفوائد
الحديث
قوله صلى الله عليه وسلم : أخبرني عن الإيمان : الإيمان في اللغة :
هو مطلق التصديق ، وفي الشرع : عبارة عن تصديق خاص ، وهو التصديق بالله ، وملائكته
وكتبه ، ورسله ، وباليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشره . وأما الإسلام فهو عبارة عن
فعل الواجبات، وهو الانقياد إلى عمل الظاهر . قد غاير الله تعالى بين الإيمان
والإسلام كما في الحديث ، قال الله تعالى :{قَالَتِ
الأعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات
:14].وذلك أنَّ المنافقين كانوا يصلون ويصومون ويتصدقون ، وبقلوبهم ينكرون، فلما
ادَّعوا الإيمان كذَّبَهم الله تعالى في دعواهم الإيمان لإنكارهم بالقلوب،وصدقهم
في دعوى الإسلام لتعاطيهم إياه . وقال الله تعالى: {إِذَا جَاءكَ
الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون
:1]. أي في دعواهم الشهادة بالرسالة مع مخالفة قلوبهم ، لأن ألسنتهم لم تواطىء
قلوبهم ،وشرط الشهادة بالرسالة : أن يواطىء السان القلب فلما كذبوا في دعواهم
بَّين الله تعالى كذبهم ، ولما كان الإيمان شرطاً في صحة الإسلام
استثنى الله تعالى من المؤمنين المسلمين
قال الله تعالى : {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ
فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ
الْمُسْلِمِينَ (36)} [الذاريات] فهذا استثناء متصل لما بين
الشروط من الاتصال ولهذا سمى الله تعالى الصلاة : إيماناً :قال الله تعالى : {وَمَا كَانَ
اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة : 143]. وقال
تعالى : {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ}
[الشورى :52] أي الصلاة .
قوله صلى
الله عليه وسلم : (( وتؤمن بالقدر خيره وشره )) بفتح الدال وسكونها لغتان ، ومذهب
أهل الحق : إثبات القدر ، ومعناه أن الله سبحانه وتعالى قدر الأشياء في القدم ،
وعلم سبحانه وتعالى أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه وتعالى ، وفي أمكنة
معلومة وهي تقع على حسب ما قدره الله سبحانه وتعالى . واعلم أن التقادير أربعة :
(الأول)
التقدير في العلم ولهذا قيل : العناية قبل الولاية ، والسعادة قبل الولادة
،واللواحق مبنية على السوابق ، قال الله تعالى {يُؤْفَكُ
عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات :9] أي يصرف عن سماع القرآن
وعن الإيمان به في الدنيا من صرف عنه في القدم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: (( لا يهلك الله إلا هالكاً )) أي من كتب في علم الله تعالى أنه هالك .
(الثاني)
التقدير في اللوح المحفوظ ، وهذا التقدير يمكن أن يتغير قال الله تعالى : {يَمْحُو
اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد :39]
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول في دعائه : (( اللهم إن كنت كتبتني
شقياً فامحني واكتبني سعيداً )).
(الثالث)
التقدير في الرحم ، وذلك أن الملك يؤمر بكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد .
(الرابع )
التقدير وهو سوق المقادير إلى المواقيت ، والله تعالى خلق الخير والشر وقدر مجئيه
إلى العبد في أوقات معلومة .و الدليل على أن الله تعالى خلق الخير والشر قوله
تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47)
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍِ (49)} [القمر]
نزلت هذه الأية في القدرية ، يقال لهم ذلك في جهنم، وقال تعالى {قُلْ أَعُوذُ
بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} [الفلق].
وهذا القسم إذا حصل اللطف بالعبد صرف عنه قبل أن يصل إليه .
وفي الحديث
: (( إن الصدقة وصلة الرحم تدفع ميتة السوء وتقلبه سعادة )).
وفي الحديث
:(( إن الدعاء والبلاء بين السماء والأرض يقتتلان ، ويدفع الدعاء البلاء قبل أن
ينزل )).
وزعمت
القدرية : أن الله تعالى لم يقدر الأشياء في القدم ، ولا سبق علمه بها ، وأنها
مستأنفة ، وأنه تعالى يعلمها بعد وقوعها ، وكذبوا على الله سبحانه وتعالى جلَّ عن
إقوالهم الكاذبة وتعالى علواً كبيراً ، وهؤلاء انقرضوا وصارت القدرية في الأزمان
المتأخرة يقولون : الخير من الله والشر من غيره ، تعالى الله عن قولهم ، وصح عنه
صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( القدرية مجوس هذه الأمة )) . سماهم مجوساً
لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس ، وزعمت الثنوية أن الخير من فعل النور والشر من فعل
الظلمة فصاروا ثنوية ، كذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله والشر إلى غيره وهو
تعالى خالق الخير والشر .
قال إمام
الحرمين في كتاب ((الإرشاد )) إن بعض القدرية تقول : لسنا بقدرية بل أنتم القدرية
لاعتقادكم أخبار القدر ،و رد على هؤلاء الجهلة بأنهم يضيفون القدر إلى أنفسهم ،
ومن يدعي الشر لنفسه ويضيفه إليها أولى بأن ينسب إليه ممن يضيفه لغيره وينفيه عن
نفسه .
قوله صلى
الله عليه وسلم : فأخبرني عن الإحسان قال : (( الأحسان أن تعبد الله كأنك تراه ))
وهذا مقام المشاهدة لأن من قدر أن يشاهد الملك استحى أن يلتفت إلىغيره في الصلاة
وأن يشغل قلبه بغيره ومقام الإحسان مقام الصديقين وقد تقدم في الحديث الأول
الإشارة إلى ذلك .
قوله صلى
الله عليه وسلم : ((فإنه يراك )) غافلاً إن غفلت في الصلاة وحدثت النفس فيها .
قوله صلى
الله عليه وسلم : فأخبرني عن الساعة فقال : (( ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ))
هذا الجواب على أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يعلم متى الساعة؟ بل علم الساعة مما
استأثر الله تعالى به ، قال الله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ
عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان:34]. وقال تعالى
: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ
بَغْتَةً} [الإعراف:187}.وقال تعالى : {وَمَا
يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب:63].
ومن ادعى أن
عمر الدنيا سبعون ألف سنة وأنه بقي منها ثلاثة وستون ألف سنة فهو قول باطل حكاه
الطوخي في ((أسباب التنزيل )) عن بعض المنجمين وأهل الحساب ، ومن ادعى أن عمر
الدنيا سبعة آلاف سنة فهذا يسوف على الغيب ولا يحل اعتقاده.
قوله صلى
الله عليه وسلم : فأخبرني عن أماراتها قال : (( أن تلد الأمة ربتها )) الأمار
والأمارة بإثبات التاء وحذفها لغتان ، وروي ربها وربتها ، قال الأكثرون هذا إخبار
عن كثرة السراري وأولادهن ، فإن ولدها من سيدها بمنزلة سيدها لأن مال الإنسان صائر
إلى ولده ، وقيل معناه الإماء يلدن الملوك فتكون أمة من جملة رعيته ، ويحتمل أن
يكون المعنى : أن الشخص يستولد الجارية ولداً ويبيعها فيكبر الولد ويشتري أمه ،
وهذا من أشراط الساعة.
قوله صلى
الله عليه وسلم : (( وأن ترى الحفاة العراة العالة ، رعاء الشاء يتطاولون في
البنيان )) إذ العالة هم الفقراء ، والعائل الفقير ، والعيلة الفقر وعال الرجل
يعيل عيلة أي افتقر . والرعاء بكسر الراء وبالمد ويقال فيه رعاة بضم الراء وزيادة
تاء بلا مد معناه أن أهل البادية وأشباهم من أهل الحاجة والفاقة يترقون في البنيان
والدنيا تبسط لهم حتى يتباهوا في البنيان .
قوله : ((
فلبث مليا )) هو بفتح الثاء على أنه للغائب ، وقيل : فلبثت بزيادة تاء المتكلم
وكلاهما صحيح . وملياً بتشديد الياء معناه وقتاً طويلاً.وفي رواية أبي داود
والترمذي أنه قال : بعد ثلاثة أيام . وفي (( شرح التنبيه )) للبغوي أنه قال : بعد
ثلاثة فأكثر ، وظاهر هذا أنه بعد ثلاث ليال . وفي ظاهر هذا مخالفة لقول أبي هريرة
في حديثه ، ثم أدبر الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ردوا علىَّ
الرجل )) فأخذوا يردونه فلم يروا شيئاً فقال صلى الله عليه وسلم : (( رودا علىَّ
الرجل )) فأخذوا يرودنه فلم يروا شيئاً فقال صلى الله عليه وسلم :(( هذا جبريل ))
فيمكن الجمع بينهما بأن عمر رضي الله عنه لم يحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم
لهم في الحال ، بل كان قد قام من المجلس فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم الحاضرين
في الحال ، وأخبروا عمر بعد ثلاث إذ لم يكن حاضراً عن إخبار الباقين .
وفي قوله
صلى الله عليه وسلم : (( هذا جبريل آتاكم يعلمكم أمر دينكم )) ، فيه دليل على ان
الإيمان ،و الإسلام ،و الإحسان ، تسمى كلها ديناً ، وفي الحديث دليل على أن
الإيمان بالقدر واجب ، وعلى ترك الخوض في الأمور ، وعلى وجوب الرضا بالقضاء . دخل
رجل على ابن حنبل رحمه الله . فقال : عظني . فقال له : إن كان الله تعالى قد تكفل
بالرزق فاهتمامك لماذا ؟ وإن كان الخلف على الله حقاً فالبخل لماذا ؟ وإن كانت
الجنة حقاً فالراحة لماذا ؟ وإن كان سؤال منكر ونكير حقاً فالأنس لماذا؟وإن كانت
الدنيا فانية فالطمأنينة لماذا ؟ وإن كان الحساب حقاً فالجمع لماذا ؟ وإن كان كل
شيء بقضاء وقدر فالخوف لماذا ؟
(فائدة ) ذكر صاحب ((
مقامات العلماء )) أن الدنيا كلها مقسومة على خمسة وعشرين قسماً : خمسة بالقضاء
والقدر ، وخمسة بالاجتهاد ، وخمسة منها بالعادة ، وخمسة بالجوهر ، وخمسة بالوراثة
. فأما الخمسة التي بالقضاء والقدر : فالرزق ، والولد ، والأهل ، والسلطان ،
والعمر . والخمسة التي بالاجتهاد : فالجنة ، والنار ن والعفة ،و الفروسية ،
والكتابة . والخمسة التي بالعادة : فالأكل ، والنوم ، والمشي ،و النكاح ،و التغوط
.و الخمسة التي بالجوهر : فالزهد ، والزكاة ، والبذل ، والجمال ،و الهيبة. والخمسة
التي بالوراثة : فالخير ، والتواصل ، والسخاء والصدق ،و الأمانة . وهذا كله لا
ينافي قوله صلى الله عليه وسلم (( كل شيء بقضاء وقدر )). وإنما معناه : أن بعض هذه
الأشياء يكون مرتباً على سبب ،وبعضها يكون بغير سبب ، والجميع بقضاء وقدر .
…..
…..
الحديث الثالث - أركان
الإسلام
عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال:
سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: بني الإسلام
على خمسٍ؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء
الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان. (رواه البخاري ومسلم)
شرح وفوائد
الحديث
قوله صلى الله عليه وسلم : (( بني الإسلام على خمس )) أي فمن أتى
بهذه الخمس فقد تم إسلامه ، كما أن البيت يتم بأركانه كذلك الإسلام يتم بأركانه
وهي خمس ، وهذا بناء معنوي شبه بالحسي ، ووجه الشبه أن البناء الحسي إذا انهدم بعض
أركانه لم يتم ، فكذلك البناء المعنوي ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم :
(( الصلاة
عماد الدين فمن تركها فقد هدم الدين )) ،و كذلك يقاس البقية.
وقد ضرب
الله مثلاً للمؤمنين والمنافقين فقال تعالى
: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ
وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ
هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ} [التوبة109]. شبه بناء
المؤمن بالذي وضع بنيانه على وسط طود أي : جبل راسخ ،وشبه بناء الكافر بمن
وضع بنيانه على طرف جرف بحر هار ، لا ثبات له فأكله البحر فانهار
الجرف فانهار بنيانه فوقع به في البحر ، فغرق ، فدخل جهنم .
قوله صلى الله عليه وسلم: (( بني الإسلام على خمس )) أي بخمس على أن تكون على : بمعنى الباء وإلا فالمبني غير المبنى عليه فلو أخذنا بظاهره لكانت الخمسة خارجة عن الإسلام وهو فاسد ، ويحتمل أن تكون بمعنى من كقوله تعالى : {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} [المومنون:6 والمعارج :30]. أي من أزواجهم . الخمسة المذكورة في الحديث أصول البناء وأما التتمات المكملات كبقية الواجبات وسائر المستحبات فهي زينة للبناء . وقد ورد في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (( الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله ، قال وأدناها إماطة الأذى عن الطريق )).
قوله صلى الله عليه وسلم: (( وحج البيت وصوم رمضان )). هكذا جاء في هذه الرواية بتقديم الحج على الصوم ، وهذا من باب الترتيب في الذكر دون الحكم ، لأن صوم رمضان وجب قبل الحج وقد جاء في الرواية الأخرى تقديم الصوم على الحج.
…..
…..
الحديث الرابع - خلق الإنسان
عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: حدّثنا
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم
يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفةً ثم يكون علقةً مثل ذلك ثم يكون مضغةً مثل
ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكَتْب رزقه وأجله
وعمله وشقي أو سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن أحد كم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى
ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها،
وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه
الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. (رواه البخاري ومسلم)
شرح وفوائد
الحديث
قوله : وهو الصادق المصدوق ، أي شهد الله له بأنه الصادق ،
والمصدوق بمعنى المصدق فيه.
قوله صلى الله
عليه وسلم (( يجمع خلقه في بطن أمه )) يحتمل أن يراد أن يجمع بين ماء الرجل
والمرأة فيخلق منهما الولد كما قال الله تعالى
: {خُلِقَ
مِن مَّاء دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)} [الطارق].
ويحتمل أن المراد
أنه يجمع من البدن كله ، وذلك أنه قيل : إن النطفة في الطور الأول تسري
في جسد المرأة أربعين يوماً ، وهي أيام التوحمة ، ثم بعد ذلك يجمع ويدر
عليها من تربة المولود فتصير علقة ثم يستمر في الطور الثاني فيأخذ في
الكبر حتى تصير مضغة ، وسميت مضغة لأنها بقدر اللقمة التي تمضغ ، ثم في الطور
الثالث يصور الله تلك المضغ ويشق فيها السمع والبصر والشم والفم ،
ويصور في داخل جوفها الحوايا والأمعاء ، قال الله تعالى : {ُوَ الَّذِي
يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ} [آل عمران :6]، ثم إذا تم الطور
الثالث وهو أربعون صار للمولود أربعة أشهر نفخت فيه الروح ، قال الله تعالى: {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم
مِّن تُرَابٍ}
يعني أباكم آدم {ثُمَّ
مِن نُّطْفَةٍ}
يعني ذريته ، والنطفة المني وأصلها الماء القليل وجمعها نطاف {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} وهو الدم
الغليظ المتجمد ، وتلك النطفة تصير دماً غليظاً {ثُمَّ
مِن مُّضْغَةٍ}
وهي لحمة {مُّخَلَّقَةٍ
وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج:5]. قال ابن عباس مخلقة :
أي تامة ، وغير مخلقة أي غير تامة بل ناقصة الخلق ، وقال مجاهد : مصورة وغير مصورة ، يعني السقط .
وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : (( إن النطفة إذا استقرت في الرحم
أخذها الملك بكفه فقال : أي رب مخلقة ، أو غير مخلقة ؟ فإن قال : غير مخلقة
، قذفها في الرحم دماً ولم تكن نسمة ، وإن قال : مخلقة ، قال الملك : أي رب
ذكرُ أم أنثى ؟ أشقي أم سعيدُ ؟ ، ما الرزق وما الأجل وبأي أرض تموت ؟
فيقال له اذهب إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها كل ذلك . فيذهب فيجدها في أم
الكتاب فينسخها فلا تزال معه حتى يأتي إلى آخر صفته )).
ولهذا قيل : السعادة قبل الولادة
.
قوله صلى الله عليه وسلم : (( فيسبق عليه الكتاب )) أي الذي سبق في العلم ، أو الذي سبق في اللوح المحفوظ ، أو الذي سبق في بطن الأم . وقد تقدم أن المقادير أربعة .
قوله صلى الله عليه وسلم : (( حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع )) هو تمثيل وتقريب ، والمراد قطعة من الزمان من آخر عمره وليس المراد حقيقة الذراع وتحديده من الزمان ، فإن الكافر إذا قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ثم مات دخل الجنة ، والمسلم إذا تكلم في آخر عمره بكلمة الكفر دخل النار .
وفي الحديث دليل على عدم القطع بدخول الجنة أو النار ، وإن عمل سائر أنواع البر ، أو عمل سائر أنواع الفسق ، وعلى أن الشخص لا يتكل على عمله ولا يعجب به لأنه لا يدري ما الخاتمة . وينبغي لكل أحد أن يسأل الله سبحانه وتعالى حسن الخاتمة ويسعيذ بالله تعالى من سوء الخاتمة وشر العاقبة . فإن قيل : قال الله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا} [الكهف:30] ظاهر الآية أن العمل الصالح من المخلص يقبل ، وإذا حصل القبول بوعد الكريم أمن مع ذلك من سوء الخاتمة .
فالجواب من وجهين : احدهما أن يكون ذلك معلقاً على شرط القبول وحسن الخاتمة ،و يحتمل أن من آمن وأخلص العمل لا يختم له دائماً إلا بخير ، وأن خاتمة السوء إنما تكون في حق من أساء العمل أو خلطه بالعمل الصالح المشوب بنوع من الرياء والسمعة ويدل عليه الحديث الآخر (( إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس )) أي : فيما يظهر لهم صلاح مع فساد سريرته وخبثها ،و الله أعلم .
وفي الحديث دليل على استحباب الحلق لتأكيد الأمر في النفوس وقد أقسم الله تعالى : {فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:23]، وقال الله تعالى :{قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} [التغابن:7].
والله تعالى أعلم .